السبت، 29 مارس 2008

تعرف على الحبيب المصطفى

محمد صلى الله عليه وسلم مفتيا:

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ }النساء 127.

يطاوعه اللفظ العصيّ إذا قضى
ويسعفه الرأي الأصيل إذا جرى
إذا ظنّ ظنّاً قلت صبحٌ مؤلقٌ
كأنه صريح البرق من ظنّه سرى

كان عليه الصلاة والسلام مؤيدا من ربه في علم الفتيا، فقد فتح الله عليه أبواب المعرفة وكنوز الفهم، فكان عنده جواب لكل سائل على حسب حاله وما يصلح له وما ينفعه في دنياه وأخراه. كان الجواب ثوبا مفصلا على السائل يفصّله تماما على الذي أحسن، مع جمال الأداء وبهاء الإلقاء ومتعة التلقي منه، فكأنه قرأ حياة السائل قبل أن ياتيه، وألمّ بدخائله ومذاهبه قبل أن يستفتيه، وما ذاك إلا لقوّة أنوار النبوّة وبركة الوحي وأثر التوفيق والفتح الرباني.

يسأله شيخ كبير أدركه الهرم وأضناه الكبر عن عمل يداوم عليه، فأفتاه بعمل يسير يناسب حاله على أفضل عمل وأسهل عبادة وأيسر طاعة، في لفظ وجيز، ول كان غيره لربما أوصى الرجل بالاجتهاد في الطاعة واغتنام آخر العمر بالجدّ في العبادة مع إغفال ضعفه وإهمال شيخوخته.

وانظر ما أجمل كلمة:" لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله" أخرجه أحمد [17227، 17245] والترمذي 3375 وابن ماجه 3793 وانظر المشكاة 2279. وما فيها من حسن تصوير وبراعة عرض وطلاوة عبارة تهيج السامع على هذا العمل الجليل.

وجاءه غيلان الثقفي، وكان قوي البنية ضخم الأعضاء صلب الجسم، فسأله عن عمل يتقرب به الى الله تعالى، فقال:" عليك بالجهاد في سبيل الله" (لم يجد تخريجه)، فانظر لحسن اختياره للعمل وملاحظته استعداد الرجل وما يصلح له ويناسب حاله، فيا لها من فطنة باهرة وحكمة عامرة.

وسأله أبو ذر ـ وكان غضوبا حادّ الطباع ـ أن يوصيه فقال:" لا تغضب" ثلاثا، أخرجه البخاري 6116 عن أبي هريرة رضي الله عنه. فكان هذا دواءه وعلاج حالته وبلسم حاله الذي لا يصرف إلا من صيدلية النبوة المباركة. وصارت هذه الكلمة قاعدة من قواعد الدين وأصلا من أصول الشريعة.

ويرى أبا موسى الأشعري يصعد جبلا فيقول له:" عليك بلا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة" أخرجه البخاري [ 4205، 6610] ومسلم 2704. فهذه الكلمة تناسب صعود الجبال وحمل الأثقال، لأن فيها البراءة من قوة العبد وحوله وطلب المعونة من الله والمدد، فما أحسن الاختيار في هذا الإرشاد مع مراعاة مقتضى المقام.

ويرى صلى الله عليه وسلم ضعف أبي ذر وقلة تحمّله فيأمره باجتناب الإمارة، لأنه ضعيف، وهي أمانة وخزي وندامة يوم القيامة، لن مثل أبي ذر له أبواب في الخير يجيدها غير باب الولاية، فانظر لفطنته صلى الله عليه وسلم ومعرفته بمواهب الناس{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) } النجم.

ويقول صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه الى اليمن:" إنك تأتي أقواما أهل كتاب" أخرجه البخاري [ 1458، 1496] ومسلم 19 عن ابن عباس رضي الله عنهما. وذلك لينبّه معاذا الى معرفة أقدار المخاطبين، والاطلاع على أحوالهم ليقول لهم ما يناسبهم.

ويوصي معاذا ـ وهو رديفه على حمار ـ بحق الله على العبيد وحق العبيد على الله؛ لأن معاذا عالم داعية تناسبه هذه الوصية الكبرى، وسوف يبلغها للأمة، لأنه في مكان التوجيه والإرشاد والنصح، وهذا الذي فعله معذا في حياته. ولو كان أعرابيا لما ناسبه هذا الكلام.

وجاءه حصين بن عبيد فسأله:"كم تعبد؟" قال: سبعة، واحدا في السماء وستة في الأرض، قال:" من لرغبك ورهبك؟" قال: الذي في السماء، قال:" فاترك التي في الأرض واعبد الذي في السماء" ثم قال له:" قل اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شرّ نفسي" اخرجه الترمذي 3483 واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 1184 عن عمران بن حصين رضي الله عنه وانظر المشكاة 2476. فهذا الدعاء يناسب حال حصين بن عبيد وما كان فيه من أمر مريج ومن اشتباه حال وشكٍّّ مريب وفوات رشد وبعد صواب، فناسب أن يطلب الرشد من ربّه وأن يستعيذ من شرّ نفسه كل بلاء منها.

وأرشد صلى الله عليه وسلم علي ابن أبي طالب الى أن يقول:"اللهم اهدني وسدّدني" اخرجه مسلم 2725 عن علي رضي الله عنه. وهذا يناسب حال علي، فإنه عاش حتى أدرك اختلاف الأمور وظهور الفتن والتباس الحال التي تتطلب الهداية من الله في هذا الجو المظلم، وطلب السداد من الحيّ القيوّم عند هذه الواردات والآراء والأهواء.

فسبحان من ألهم رسوله وفتح على نبيه وأفاض عليه من مكنون الفهم ومخزون الفقه ما فاق الوصف وجلّ عن المدح:

قطف الرجال القول قبل نباته
وقطفت أنت القول لمّا نوّرا
فهو المشيع بالعيون
وهو المضاعف حسنه إن كرّرا

وليس كلامه صلى الله عليه وسلم بكلام شعر من الشعراء الذين يهرفون بما لا يعرفونن وفي كل واد يهيمون، وإنما زخرفهم من خيالاتهم الفاسدة ومن تصوراتهم الكاسدة، فأما هو فصانه الله من ذلك، بل كلامه وحي يوحى وشرع يتلى، وليس قوله بقول سياسي يسترضي به الملأ وينافق به الجمهور ويروّج به بضاعته المزجاة، بل كان صلى الله عليه وسلم نبيّا ربّانيا ورسولا معصوما ينقل عن جبريل عن ربّه حكمة راشدة وملة هاديةن ودينا قيّما.

ولم يكن صلى الله عليه وسلم اديبا يغرف من مخزون ثقافته ومن فيض ذاكرته التي جمعها هذا الأديب من نتاج الناس وزبد ثقافات البشر أبناء الطين وسلالة التراب، بل كان صلى الله عليه وسلم معلّما معصوما أن يزيغ، محفوظا أن يضلّ، مصانا أن يجازف.

محمد صلى الله عليه وسلم طاهرا مطهرا

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً (46) } الأحزاب.

كأن الثريّا علّقت بجبينه
وفي جيده الشّعرى وفي وجهه القمر
عليه جلال المجد لو أن وجهه
أضاء بليل هلّل البدو والحضر

لقد أكمل الله المحاسن لرسوله صلى الله عليه وسلم وأتمّ عليه نعمة الفضل، واختصّه بالعناية حتى صار الأسوة الحسنة في كل فضيلة، فمنه تتعلم فنون المكارم، ومن برديه تنبع صفوة المناقب؛ لأن من لوازم القدوة أن يكون مثاليا جامعا لما تفرق في الأخيار من سجايا حميدة، فكان عليه الصلاة والسلام ذاك الإنسان المجتبى من ربه المصطفى من خالقه، ليقود الناس الى أحسن الأخلاق وأنبل الأعمال وأكرم المذاهب.

فأما مخبره عليه الصلاة والسلام فهو الطاهر المبارك الذي غسل قلبه بماء الحياة فصار أبيض نقيا مطهرا، وقد أذهب الله من صدره كلّ غيظ وحسد وحقد وغلّ وغش، فصار أرحم الناس قاطبة، وأبرّهم كافة، وأكرمهم جميعا، فعمّ حلمه وكرمه وطيبه وجوده الحاضر والبادي والقريب والبعيد، فنفسه أذكى نفس، وباله أشرح بال، وضميره أطهر ضمير، وحُقّ له أن يكون كذلك لأنه المرشّح لقيادة العالم وإصلاح الكون وتقويم البشرية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)} الأنبياء.

إن البريّة يوم مبعث أحمد
نظر الاله لها فبدّل حالها
بل كرّم الإنسان يوم اختار من
خير البرية نجمها وهلالها

ينهى عن الغضب ويقول:"لا تغضب"، ويكون أبعد الناس عن أسباب الغضب المشين دوافعه، بل وسع الناس حلما وأمطرهم كرما وأوسعهم عفوا وصفحا.

ويقول:" لا تحاسدوا". أخرجه البخاري [6116، 6076] ومسلم 2559 عن أنس بن مالك رضي الله عنه. ثم يكون المعافى من هذا الداء القاتل، فليس في كيانه ذرة من حسد، أو قطرة من حقد، صانه الله من ذلك، بل هو الذي وزع الخير على العالم وقسم الفضل من الله على الناس.

ويقول:" ولا تدابروا، ولا تقاطعوا" الحديث السابق، ثم يترجم هذا الخلق النبيل من الصلة والبر والإحسان، فيصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه، فأعظم عبد صحّت فيه آية:{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } آل عمران 134.

ويقول:" إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا" أخرجه مسلم 2865 عن عياض بن حمار رضي الله عنه. فيكون هو التواضع كله صورة ماثلة ومشهدا حيا وحقيقة قائمة، يركب الحمار، ويخصف النعل، ويجلس على التراب، ويحلب الشاة، ويقف مع العجوز، ويذهب مع الجارية، ويخالط المساكين، ويضيف الأعراب، ويجالس الفقراء.

ويقول:"خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" أخرجه الترمذي 3895 والبيهقي في السنن 15477 عن عائشة رضي الله عنها. فيتمثل فيه هذا الحديث أعظم تمثيل، فإذا الرحيم الودود بأهله يدخل عليهم ضحّاكا بسّاما، يداعبهم بأرق العبارات ويلاطفهم بأحسن التعامل، يشاركهم الخدمة ويجاذبهم أحلى الحديث ويبادلهم أجمل السمر بلا فظاظة ولا غلظة ولا لوم ولا تعنيف { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} القلم.

خلق أرق من النسيم إذا سرى
وشمائل كالمنديل الفوّاح

قال له رجل وهو يقسم الغنائم: اعدل يا محمد. فردّ عليه:" خبت وخسرت فمن يعدل إذا لم أعدل؟" أخرجه البخاري 3610 ومسلم 1064. وصدق وبرّ فيما قال، فليس في العالم أعدل منه، وإذا لم يكن عادلا صلى الله عليه وسلم فقد انتهى العدل في الدنيا، وطوي من الناس، وارتفع من الأرض، وهل العدل إلا حكمه؟ ولو كان العدل شخصا ناطقا ثم سألته من أعدل البريّة؟ لقال محمد صلى الله عليه وسلم.

وانظر الى عدله في أحكامه وإنصافه حتى من نفسه، بل طلب من بعض أصحابه أن يقتصّ منه، وأقسم لو أن فاطمة ابنته سرقت لقطع يدها، فكان لا يحابي أحدا في الحق، ولا يشفع عنده بشر في الحدود، وقد صاح في وجه أسامة بن زيد وهو من أحبّ الناس إليه لما شفع في المخزومية التي سرقت:" أتشفع في حدّ من حدود الله" أخرجه البخاري[ 3475، 6788] ومسلم 1688 عن عائشة رضي الله عنها.

وحكم بين الزبير ورجل من الأنصار، فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك؟ يعني أن الزبير ابن عمتك صفية فحكمت له؟ فأنزل الله:{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيما(65)} النساء. فكفى بالله شهيدا على عدل رسوله وصدق أحكامه وصحة قضائه:

وإذا حكمت فلا ارتياب كأنما
جاء الخصوم من السماء قضاء

فهو مؤسس العدل في العالم، وهادم صرح الظلم، واعترف بذلك العدو والصديق والكاره والمحب.

وقس على ذلك أخلاقه الشريفة التي دعا إليها وكان أول عامل بها، فصدّق فعله قوله وباطنه ظاهره، وجوارحه قلبه.

وأما جمال ظاهره صلى الله عليه وسلم فهو عنوان كتاب قيمه المثلى، وبوابة قصر محاسنه الجلّى، فكان أجمل الناس وجها وأبهاهم محيّا، وأزهرهم جبينا وأنورهم طلعة، رقيق البشرة طيب الرائحة، زكي الشذا. عرقه كالجمان، وأنفاسه كالمسك، يقول أنس: ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكا ولا عنبرا أزكى من رائحته. أخرجه البخاري 3561 ومسلم 2330. يصافحه الرجل فيجد آثار الطيب في كفه أياما عديدة من أثر مصافحته:

ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه
من المسك كافورا وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هندا عشية
تمشّت وجرت في جوانبه بردا

وكان صلى الله عليه وسلم حيّ العاطفة جيّاش الفؤاد، يضحك للنادرة ويهش للدعابة، ويتأثر للموقف ويبكي رحمة، ويلين شفقة ويمتلئ خشية، إذا سالم فأوفى الأوفياء وأكرم الأصدقاء، وإذا حارب فأعتى من الرياح النكباء وأمضى من الصعدة السمراء، وإذا أعطى فأجود من تحت السماء وأسخى من شربة الماء، وإذا رضي ملأ القلوب سعادة وعمر المجلس حفاوة، وإذا غضب في الحق كان أمضى من السيف حسما، وأقوى من الأيام حزما.

يضحك بأسنان كالبرد، ويبكي بدموع كالمطر، ويعطي بكفّ الغيث، ويقابل بمحيّا كالفجر، لا يملّ جليسه حديثه، ولا يسأم رفيقه صحبته، ولا يطيق من عرفه فراقه.

يخرج الى العيد في حلّة حمراء زاهية باهية، بوجه طلق بشوش، أجمل من العيد وأجل من تلك الفرحة، فكان عيد الصحابة الأعظم رؤيته وسماع حديثه والتمتع بصحبته، ويحضر الاستسقاء متخشعا مبتذلا متضرعا باكيا، فكان أعظم موعظة عند المسلمين رؤية ذاك الوجه الخاشع والنظر الى تلك الدموع الصادقة والمنظر المؤثر.

ويخوض صلى الله عليه وسلم الحرب ويشعل المعركة بقلب وثّاب ونفس ثابتة وعزم صادق، فتنهزم أمامه الصفوف وتتراجع من سطوته الأبطال، فأشجع الصحابة وقت الذروة يتقي به، وأعتى الكماة لحظة الموت يحتمي به.

ليست هناك تعليقات: